س: أرجو من فضيلتكم الإفتاء بالنسبة للتدخين .. هل هو حلال أم حرام؟ وذلك بالنظر إلى النقط الموضحة بعد .
1. في كتاب "الحلال والحرام" أفتيتم بأن التدخين حرام مستندًا إلى أنه قد ثبت ضرره (الطبعة الأخيرة) .
2. في حلقة تليفزيونية أخبرتنا أن التدخين حرام أو مكروه كراهة التحريم .
3. في تقرير لكلية الأطباء الملكية البريطانية قالوا فيه (أقلعوا عن التدخين وإلا عاجلتكم المنية) ..
4. بلغنا أنه قد أفتى بعض كبار علماء الدين بأن التدخين بين حرام ومكروه ، ومسموح به .
( أ ) فهو حرام في حالة عدم قدرة المدخن على تحمل مصاريف التدخين .
(ب) ومكروه للقادر عليه .
(جـ) ومسموح به إذا كان هناك راحة نفسية للمريض من التدخين .
5. نرى كثيرين من علماء ورجال الدين يدخنون .
ملحوظة : من أضرار التدخين التي أعلنت عنها (كلية الأطباء الملكية البريطانية) :
(1) 27500 بريطاني يفتك بهم التدخين سنويًا ، وتتراوح أعمارهم بين 34-65.
(2) 155 ألف بريطاني سيموتون سنويًا بسرطان الرئة خلال الثمانينات .
(3) 90% من حالات الوفاة بسرطان الرئة تحدث نتيجة التدخين .
(4) الأسباب الرئيسية لحدوث الوفاة بين المدخنين : الإصابة بسرطان الرئة - النزلات الشعبية - تليف الكبد - أمراض الشريان التاجي - الذبحة الصدرية - سرطان الفم : البلعوم والحنجرة - الأطفال الذين تلدهم نساء يدخن يولدون أقل من الوزن الطبيعي - والأمهات أكثر عرضة للسقط.
كما أعلن في مجلة Lancet لانست البريطانية ، وهي مجلة طبية محترمة أن التدخين مرض وليس عادة وآفة يمارسه أغلب أفراد العائلة ، أو أنه عادة يؤدي إلى امتهان الفرد لكرامته ، وأن عدد المتوفين نتيجة التدخين اضعاف وفيات وحوادث السيارات ، وينصح الطبيب الذي يدخن بأنه غير أمين على مهنته .
لعلنا نحصل على رأي قاطع بالأسانيد القرآنية والمحمدية حتى لا يكون هنا مجال للنقاش وخصوصًا أن ضرره قد ثبت بتقرير أكبر هيئة طبية محترمة في العالم (150صفحة) ولك مني ألف تحية، ووفقكم الله دائماً.ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وصحبه ومن نهج نهجه (وبعد)
ظهر هذا النبات المعروف الذي يطلق عليه اسم "الدخان" أو (التبغ) أو (التمباك) أو (التتن) ، في أخر القرن العاشر الهجري ، وبدأ استعماله يشيع بين الناس ، مما أوجب على علماء ذلك العصر أن يتكلموا في بيان حكمه الشرعي .
ونظرًا لحداثته وعدم وجود حكم سابق فيه للفقهاء المجتهدين ، ولا من بعدهم من أهل التخريج والترجيح في المذاهب ، وعدم تصورهم لحقيقته ونتائجه تصورًا كاملا ، مبنيًا على دراسة علمية صحيحة ، اختلفوا فيه اختلافًا بينًا :
فمنهم من ذهب إلى حرمته .
ومنهم من أفتى بكراهته .
ومنهم من قال بإباحته .
ومنهم من لم يطلق حكمًا بل ذهب إلى التفصيل .
ومنهم من توقف فيه وسكت عن البحث عنه (انظر : مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى في فقه الحنابلة ج6ص218)
وكل أهل مذهب من المذاهب الأربعة فيهم من حرمه ، وفيهم من كرهه ، وفيهم من أباحه .
ولهذا لا نستطيع أن ننسب إلى مذهب القول بإباحة أو تحريم أو كراهة .
أدلة المحرمين :
أما المحرِّمون فاستندوا إلى عدة اعتبارات شرعية يجمع شتاتها ما يلي :
1- الإسكار :
فمنهم من قال إنه مسكر ، وكل مسكر حرام ، والمراد بالمسكر في قولهم: مطلق المغطي للعقل ، وإن لم يكن معه الشدة المطربة. قالوا: لا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة .
وبعضهم قال : معلوم أن كل من شرب دخانًا كائنًا ما كان أسكره ، بمعنى أشرقه، وأذهب عقله بتضييق أنفاسه ومسامه عليه ، فالإسكار من هذه الحيثية لا سكر اللذة والطرب (الفواكه العديدة في المسائل المفيدة . الشهير بمجموع المنقور ج2.)
ورتب بعضهم على هذا عدم جواز إمامة من يشربه .
2- التفتير والتخدير :
وقالوا: إن لم يسلم أنه يسكر فهو يخدر ويفتر . وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن كل مسكر ومفتر )(رمز له السيوطي في الجامع الصغير بعلامة الصحة وأقره المناوي في فيض القدير .)
قالوا : والمفتر ما يورث الفتور والخدر في الأطراف . وحسبك بهذا الحديث دليلاً على تحريمه .
3- الضرر :
والضرر الذي ذكروه هنا ينقسم إلى نوعين :
( أ ) ضرر بدني : حيث يضعف القوى ، ويغير لون الوجه بالصفرة ، والإصابة بالسعال الشديد، الذي قد يؤدي إلى مرض السل .
ومن سديد ما قاله بعض العلماء هنا : انه لا فرق في حرمة المضر بين أن يكون ضرره دفعيًا ( أي يأتي دفعة واحدة ، وأن يكون تدريجيًا ، فإن التدريجي هو الأكثر وقوعًا .
(ب) ضرر مالي : ونعني به أن في التدخين تبذيرًا للمال، أي إنفاقه فيما لا يفيد الجسم ولا الروح ، ولا ينفع في الدنيا ولا الآخرة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . وقال الله تعالى (ولا تبذر تبذيرًا . إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورًا)الإسراء:27.
وقال أحد العلماء :
لو اعترف الشخص أنه لا يجد فيه نفعًا بوجه من الوجوه ، فينبغي أن يحرم عليه، لا من حيث الاستعمال . بل من حيث إضاعة المال إذ لا فرق في حرمة إضاعته بين إلقائه في البحر ، وإحراقه بالنار ، أو غير ذلك من وجوه الإتلاف .
وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر فيما مضى : شيخ الإسلام أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي ، وشيخ المالكية إبراهيم اللقاني . ومن علماء المغرب : أبو الغيث القشاش المالكي. ومن علماء دمشق : نجم الدين بن بدر الدين بن مفسر القرآن ، العربي الغزي العامري الشافعي . ومن علماء اليمن : إبراهيم بن جمعان ، وتلميذه أبو بكر بن الأهدل .
ومن علماء الحرمين : المحقق عبد الملك العصامي ، وتلميذه محمد بن علامه والسيد عمر البصري . وفي الديار الرومية ( التركية ) الشيخ الأعظم محمد الخواجه ، وعيسى الشهواي الحنفي ، ومكي بن فروح المكي ، والسيد سعد البلخي المدني .
كل هؤلاء من علماء الأمة أفتوا بتحريمه ونهوا عن تعاطيه(انظر الفواكه العديدة ج2ص80-87.
مستند القائلين بالكراهة :أما القائلون بكراهته ، فقد استندوا إلى ما يأتي :
( أ ) أنه لا يخلو من نوع ضرر ، ولا سيما الإكثار منه . مع أن القليل يجر إلى الكثير .
(ب) النقص في المال ، فإذا لم يكن تبذيرًا ولا إسرافًا ولا إضاعة . فهو نقص في المال ، كان يمكن إنفاقه فيما هو خير منه وأنفع لصاحبه والناس .
(جـ) نتن رائحته التي تزعج كل من لم يألفها وتؤذيه ، وكل ما كان كذلك فتناوله مكروه كأكل البصل النيئ والثوم والكرات ونحوها .
( د ) إخلاله بالمروءة بالنسبة لأهل الفضائل والكمالات .
(هـ) يشغل عن أداء العبادة على الوجه الأكمل .
( و ) ومن اعتاده قد يعجز في بعض الأيام عن تحصيله فيتشوش خاطره لفقده .
( ز ) ومثل ذلك إذا كان في مجلس لا ينبغي استعماله فيه ، أو يستحي ممن حضر .
وقال الشيخ أبو سهل محمد بن الواعظ الحنفي :
الذي تفيده الأدلة كراهته قطعًا ، وحرمته ظنًا ، وكراهته لا يتوقف فيها إلا مخذول مكابر ، لقاطع الحق معاند ، فكل منتن مكروه كالبصل . وهذا الدخان الخبيث أولى ، ومنع شاربه من دخول المسجد ومن حضور المجامع أولى .
مستند القائلين بالإباحة :وأما القائلون بالإباحة فتمسكوا بأنها الأصل في الأشياء ، ودعوى أنه يسكر أو يخدر غير صحيحه. لأن الإسكار غيبوبة العقل مع حركة الأعضاء ، والتخدير غيبوبة العقل مع فتور الأعضاء ، وكلاهما لا يحصل لشاربه . نعم، من لم يعتده يحصل له إذا شربه نوع غثيان ، وهذا لا يوجب التحريم .
ودعوى أنه إسراف فهذا غير خاص بالدخان (انظر: رد المختار (حاشية ابن عابدين)ج5ص326.)
هذا ما ذهب إليه العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي .
وقال الشيخ مصطفى السيوطي الرحباني شارح "غاية المنتهى" في فقه الحنابلة :
"كل عالم محقق له اطلاع على أصول الدين وفروعه ، إذا خلا من الميل مع الهوى النفساني ، وسئل الآن عن شربه بعد اشتهاره ، ومعرفة الناس به ، وبطلان دعوى المدلين فيه بإضراره للعقل والبدن لا يجيب إلا بإباحته ، لأن الأصل في الأشياء التي لا ضرر فيها ولا نص تحريم : الحل والإباحة ، حتى يرد الشرع بالتحريم.. واتفق المحققون على أن تحكم العقل والرأي بلا مستند شرعي باطل"(انظر : رد المختار ( حاشية ابن عابدين) ج5ص36.)
وهذا ما قاله الشيخ بناء على ما تبين له في زمنه . ولو عرف ما ظهر من ضرره اليوم لغير رأيه يقينًا.
القائلون بالتفصيل :وأما القائلون بالتفصيل فقالوا :
إن هذا النبات في حد ذاته طاهر غير مسكر ولا مضر ولا مستقذر ، فالأصل إباحته، ثم تجري الأحكام الشرعية :
فمن لم يحصل له ضرر باستعماله في بدنه أو عقله ، فهو جائز له .
ومن ضره حرم عليه استعماله ، كمن يضر به استعمال العسل .
ومن نفعه في دفع مضر كمرض ، وجب عليه استعماله .
وثبوت هذه الأحكام بموجب العارض ، ويكون في حد ذاته مباحًا، كما لا يخفى .
تابعوا الجزء الثاني من هذه الفتوى